فصل: تفسير الآية رقم (252):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (249- 250):

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتٌ بالجنود} انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه ولكن لما كثر حذف مفعوله صار كاللازم. روي: أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن إختاره ثمانون ألفاً، وكان الوقت قيظاً فسلكوا مفازه وسألوه أن يجري الله لهم نهراً. {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه. {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} فليس من أشياعي، أو ليس بمتحد معي. {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولاً أو مشروباً قال الشاعر: وَإِن شِئْتُ لَمْ أَطْعِم نقاخاً وَلاَ بَرَدْا. وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل، أو بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام. {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} استثناء من قوله فمن شرب منه، وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ} والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرأ ابن عامر والكوفيون {غُرْفَةً} بضم الغين. {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ} أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط، وتعميم الأول ليتصل الاستثناء، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلاً منهم. وقرئ بالرفع حملاً على المعنى فإن قوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وقيل ثلاثة آلاف. وقيل: ألفاً روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداوته، ومن لم يقتصر غلب عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي القليل الذين لم يخالفوه. {قَالُواْ} أي بعضهم لبعض. {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لكثرتهم وقوتهم. {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى. وقيل: هم القليل الذين ثبتوا معه، والضمير في {قَالُواْ} للكثير المنخذلين عنه اعتذاراً في التخلف وتخذيلاً للقليل، وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما. {كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} بحكمه وتيسيره، و{كَمْ} تحتمل الخبر والاستفهام، و{مِنْ} مبينة أو مزيدة. والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة. {والله مَعَ الصابرين}. بالنصر والإِثابة.
{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي ظهروا لهم ودنوا منهم. {قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} التجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، وفيه ترتيب بليغ إذ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالباً.

.تفسير الآية رقم (251):

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
{فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ الله} فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم. {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} قيل: كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وكان صغيراً يرعى الغنم، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له: إنك بنا تقتل جالوت، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته. {وآتاه الله الملك} أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك. {والحكمة} أي النبوة. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} كالسرد وكلام الدواب والطير. {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم، لغلبوا وأفسدوا في الأرض، أو لفسدت الأرض بشؤمهم. وقرأ نافع هنا وفي الحج {دفاع الله}.

.تفسير الآية رقم (252):

{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
{تِلْكَ آيات الله} إشارة إلى ما قص من حديث الألوف وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داودُ جالوت {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب وأرباب التواريخ. {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} لما اختبرت بها من غير تعرف واستماع.

.تفسير الآية رقم (253):

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}
{تِلْكَ الرسل} إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة، أو المعلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو جماعة الرسل واللام للاستغراق. {فَضَّلْنَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره. {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} تفضيل له، وهو موسى عليه الصلاة والسلام. وقيل: موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، كلم الله موسى ليلة الحيرة وفي الطور، ومحمداً عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد، وقرئ: {كَلمَ الله} و{كالم الله} بالنصب، فإنه كلم الله كما أن الله كلمه ولذلك قيل كليم الله بمعنى مكالمه. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} بأن فضله على غيره من وجوه متعددة، أو بمراتب متباعدة. وهو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه خصه بالدعوة العامة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرة، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. والإبهام لتفخيم شأنه كأنه العلم المتعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين. وقيل: إبراهيم عليه السلام خصصه بالخلة التي هي أعلى المراتب. وقيل: إدريس عليه السلام لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} وقيل: أولو العزم من الرسل. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} خصه بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره. {وَلَوْ شَاء الله} أي هدى الناس جميعاً. {مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} من بعد الرسل. {مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أي المعجزات الواضحة لاختلافهم في الدين، وتضليل بعضهم بعضاً. {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ} بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضلاً. {وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} لإِعراضه عنه بخذلانه. {وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا} كرره للتأكيد. {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيوفق من يشاء فضلاً، ويُخذل من يشاء عدلاً. والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولكن بقاطع لأن اعتبار الظن فيما يتعلق بالعمل وأن الحوادث بيد الله سبحانه وتعالى تابعة لمشيئته خيراً كان أو شراً إيماناً أو كفراً.

.تفسير الآية رقم (254):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} ما أوجبت عليكم إنفاقه. {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم، والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به ولا شفاعة {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم، وإنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب: هل فيه بيع؟ أو خلة؟ أو شفاعة؟ وقد فتحها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الأصل. {والكافرون هُمُ الظالمون} يريد والتاركون للزكاة هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غيره موضعه وصرفوه على غير وجهه، فوضع الكافرون موضعه تغليظاً لهم وتهديداً كقوله: {وَمَن كَفَرَ} مكان ومن لم يحج وإيذاناً بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة}

.تفسير الآية رقم (255):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غيره. وللنحاة خلاف في أنه هل يضمر للأخير مثل في الوجود أو يصح أن يوجد. {الحي} الذي يصح أن يعلم ويقدر وكل ما يصح له فهو واجب لا يزول لامتناعه عن القوة والإِمكان. {القيوم} الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيعول من قام بالأمر إذا حفظه، وقرئ: {القيام} و{القيم}. {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السنة فتور يتقدم النوم قال ابن الرقاع:
وَسَنانٌ أَقْصَدَهُ النَّعَاسُ فَرَنَّقَت ** في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيسَ بِنَائِمٍ

والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود، والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حياً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده. {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} تقرير لقيوميتَّه واحتجاج به على تفرده في الألوهية، والمراد بما فيهما داخلاً في حقيقتهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما فهو أبلغ من قوله: {لَهُ السموات والأرض وَمَا فِيهِنَّ}، {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بيان لكبرياء شأنه سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلاً عن أن يعاوقه عناداً أو مناصبة أي مخاصمة. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي، أو أمور الدنيا وأمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسونه وما يعقلونه، أو ما يدركونه وما لا يدركونه، والضمير لما في السموات والأرض، لأن فيهما العقلاء، أو لما دل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ} من معلوماته. {إِلاَّ بِمَا شَاء} أن يعلموه، وعطفه على ما قبله لأن مجموعهما يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته سبحانه وتعالى. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات والأرض} تصوير لعظمته وتمثيل مجرد كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} ولا كرسي في الحقيقة، ولا قاعد. وقيل كرسيه مجاز عن علمه أو ملكه، مأخوذ من كرسي العالم والملك. وقيل جسم بين يدي العرش ولذلك سمي كرسياً محيط بالسموات السبع، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما السموات السبع والأرضون السبع من الكرسي، إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» ولعله الفلك المشهور بفلك البروج، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، وكأنه منسوب إلى الكرسي وهو الملبد.

.تفسير الآية رقم (256):

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
{لا إِكْرَاهَ في الدين} إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء. وقبل إخبار في معنى النهي، أي لا تكرهوا في الدين، وهو إما عام منسوخ بقوله؛ {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} أو خاص بأهل الكتاب لما روي أن أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري: يا رسول الله أيدخل بِعَقْبَيَّ النار وأنا أنظر إليه فنزلت فخلاهما. {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} بالشيطان، أو الأصنام، أو كل ما عبد من دون الله، أو صد عن عبادة الله تعالى. فعلوت من الطغيان قلبت عينه ولامه. {وَيُؤْمِن بالله} بالتوحيد وتصديق الرسل. {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} طلب الإِمساك عن نفسه بالعروة الوثقى من الحبل الوثيق، وهي مستعارة لمتمسك الحق من النظر الصحيح والرأي القويم. {لاَ انفصام لَهَا} لا انقطاع لها يقال فصمته فانفصم إذا كسرته. {والله سَمِيعٌ} بالأقوال {عَلِيمٌ} بالنيات، ولعله تهديد على النفاق.

.تفسير الآية رقم (257):

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
{الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ} محبهم، أو متولي أمورهم، والمراد بهم من أراد إيمانه وثبت في علمه أنه يؤمن. {يُخْرِجُهُم} بهدايته وتوفيقه. {مِنَ الظلمات} ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر. {إِلَى النور} إلى الهدى الموصل إلى الإِيمان، والجملة خبر بعد خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو استئناف مبين، أو مقرر للولاية. {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} أي الشياطين، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما. {يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} من النور الذي منحوه بالفطرة، إلى الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات. وقيل: نزلت في قوم ارتدوا عن الإِسلام، وإسناد الإِخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته بها. {أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} وعيد وتحذير، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.